فصل: كلام نفيس لابن القيم في خواص البيت العتيق:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.كلام نفيس لابن القيم في خواص البيت العتيق:

قال رحمه الله:
ومن خواصه أنه يعاقب فيه على الهم بالسيئات وإن لم يفعلها قال تعالى: {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [الحج: 25] فتأمل كيف عدى فعل الإرادة هاهنا بالباء ولا يقال: أردت بكذا إلا لما ضمن معنى فعل هم فإنه يقال: هممت بكذا فتوعد من هم بأن يظلم فيه بأن يذيقه العذاب الأليم.
ومن هذا تضاعف مقادير السيئات فيه لا كمياتها فإن السيئة جزاؤها سيئة لكن سيئة كبيرة وجزاؤها مثلها وصغيرة جزاؤها مثلها فالسيئة في حرم الله وبلده وعلى بساطه آكد وأعظم منها في طرف من أطراف الأرض ولهذا ليس من عصى الملك على بساط ملكه كمن عصاه في الموضع البعيد من داره وبساطه فهذا فصل النزاع في تضعيف السيئات والله أعلم.
وقد ظهر سر هذا التفضيل والاختصاص في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها لهذا البلد الأمين.
فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد فهو الأولى بقول القائل:
محاسنه هيولى كل حسن ** ومغناطيس أفئدة الرجال

ولهذا أخبر سبحانه أنه مثابة للناس أي: يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار ولا يقضون منه وطرا بل كلما ازدادوا له زيارة ازدادوا له اشتياقا:
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها ** حتى يعود إليها الطرف مشتاقا

فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح ورضي المحب بمفارقة فلذ الأكباد والأهل والأحباب والأوطان مقدما بين يديه أنواع المخاوف والمتالف والمعاطف والمشاق وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه ويراه- لو ظهر سلطان المحبة في قلبه- أطيب من نعم المتحليه وترفهم ولذاتهم:
وليس محبا من يعد شقاءه ** عذابا إذا ما كان يرضى حبيبه

وهذا كله سر إضافته إليه سبحانه وتعالى بقوله: {وطهر بيتي} [الحج: 26] فاقتضت هذه الإضافة الخاصة من هذا الإجلال والتعظيم والمحبة ما اقتضته كما اقتضت إضافته لعبده ورسوله إلى نفسه ما اقتضته من ذلك وكذلك إضافته عباده المؤمنين إليه كستهم من الجلال والمحبة والوقار ما كستهم فكل ما أضافه الرب تعالى إلى نفسه فله من المزية والاختصاص على غيره ما أوجب له الاصطفاء والاجتباء ثم يكسوه بهذه الإضافة تفضيلا آخر وتخصيصا وجلالة زائدا على ما كان له قبل الإضافة ولم يوفق لفهم هذا المعنى من سوى بين الأعيان والأفعال والأزمان والأماكن وزعم أنه لا مزية لشئ منها على شيء وإنما هو مجرد الترجيح بلا مرجح وهذا القول باطل بأكثر من أربعين وجها قد ذكرت في غير هذا الموضع ويكفي تصور هذا المذهب الباطل في فساده فإن مذهبا يقتضي أن تكون ذوات الرسل كذوات أعدائهم في الحقيقة وإنما التفضيل بأمر لا يرجع إلى اختصاص الذوات بصفات ومزايا لا تكون لغيرها وكذلك نفس البقاع واحدة بالذات ليس لبقعة على بقعة مزية ألبتة وإنما هو لما يقع فيها من الأعمال الصالحة فلا مزية لبقعة البيت والمسجد الحرام ومنى وعرفة والمشاعر على أي بقعة سميتها من الأرض وإنما التفضيل باعتبار أمر خارج عن البقعة لا يعود إليها ولا إلى وصف قائم بها والله سبحانه وتعالى قد رد هذا القول الباطل بقوله تعالى: {وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} قال الله تعالى: {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] أي: ليس كل أحد أهلا ولا صالحا لتحمل رسالته بل لها محال مخصوصة لا تليق إلا بها ولا تصح إلا لها والله أعلم بهذه المحال منكم ولو كانت الذوات متساوية كما قال هؤلاء لم يكن في ذلك رد عليهم وكذلك قوله تعالى: {وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين} [الأنعام: 53] أي: هو سبحانه أعلم بمن يشكره على نعمته فيختصه بفضله ويمن عليه ممن لا يشكره فليس كل محل يصلح لشكره واحتمال منته والتخصيص بكرامته فذوات ما اختاره واصطفاه من الأعيان والأماكن والأشخاص وغيرها مشتملة على صفات وأمور قائمة بها ليس لغيرها ولأجلها اصطفاها الله وهو سبحانه الذي فضلها بتلك الصفات وخصها بالاختيار فهذا خلقه وهذا اختياره {وربك يخلق ما يشاء ويختار} [القصص: 67] وما أبين بطلان رأي يقضي بأن مكان البيت الحرام مساو لسائر الأمكنة وذات الحجر الأسود مساوية لسائر حجارة الأرض وذات رسول الله صلى الله عليه وسلم مساوية لذات غيره، وإنما التفضيل في ذلك بأمور خارجة عن الذات والصفات القائمة بها وهذه الأقاويل وأمثالها من الجنايات التي جناها المتكلمون على الشريعة ونسبوها إليها وهي بريئة منها وليس معهم أكثر من اشتراك الذوات في أمر عام وذلك لا يوجب تساويها في الحقيقة لأن المختلفات قد تشترك في أمر عام مع اختلافها في صفاتها النفسية وما سوى الله تعالى بين ذات المسك وذات البول أبدا ولا بين ذات الماء وذات النار أبدا والتفاوت البين بين الأمكنة الشريفة وأضدادها والذوات الفاضلة وأضدادها أعظم من هذا التفاوت بكثير فبين ذات موسى عليه السلام وذات فرعون من التفاوت أعظم مما بين المسك والرجيع وكذلك التفاوت بين نفس الكعبة وبين بيت السلطان أعظم من هذا التفاوت أيضا بكثير فكيف تجعل البقعتان سواء في الحقيقة والتفضيل باعتبار ما يقع هناك من العبادات والأذكار والدعوات؟
ولم نقصد استيفاء الرد على هذا المذهب المردود المرذول وإنما قصدنا تصويره وإلى اللبيب العادل العاقل التحاكم ولا يعبأ الله وعباده بغيره شيئا والله سبحانه لا يخصص شيئا ولا يفضله ويرجحه إلا لمعنى يقتضي تخصيصه وتفضيله نعم هو معطي ذلك المرجح وواهبه فهو الذي خلقه ثم اختاره بعد خلقه {وربك يخلق ما يشاء ويختار}. اهـ.
قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا} قرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على الخبر، وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر {مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قال ابن يمان المسجد كله مقام إبراهيم، وقال إبراهيم النخعي: الحرم كله مقام إبراهيم، وقيل: أراد بمقام إبراهيم جميع مشاهد الحج، مثل عرفة ومزدلفة وسائر المشاهد.
والصحيح أن مقام إبراهيم هو الحجر الذي في المسجد يصلي إليه الأئمة، وذلك الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت، وقيل: كان أثر أصابع رجليه بينا فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، قال قتادة ومقاتل والسدي: أمروا بالصلاة عند مقام إبراهيم ولم يؤمروا بمسحه وتقبيله. اهـ.
ومقام إبراهيم هو الحجر الذي قام عليه حين جاء لزيارة ولده إسماعيل عليهما الصلاة والسلام فلم يجده، فغسلت امرأة إسماعيل رأسه وهو معتمد برجله عليه وهو راكب، غسلت شق رأسه الأيمن وهو معتمد على الحجر برجله اليمنى، ثم أدارت الحجر إلى الجانب الأيسر وغسلت شقه الأيسر، فغاصت رجلاه فيه؛ ولهذا أثر قدميه مختلف، أصابع هذه عند عقب هذه، وهو قبل أن يبني البيت- والله أعلم بمراده. اهـ.

.فائدة في قوله تعالى: {واتخذوا}:

والقراءتان تقتضيان أن اتخاذ مقام إبراهيم مصلَّى كان من عهد إبراهيم عليه السلام ولم يكن الحَجَر الذي اعتلى عليه إبراهيم في البناء مخصوصًا بصلاة عنده ولكنه مشمول للصلاة في المسجد الحرام ولما جاء الإسلام بقي الأمر على ذلك إلى أن كان عام حجة الوداع أو عام الفتح دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجدَ الحرام ومعه عمر بن الخطاب ثم سنت الصلاة عند المقام في طواف القدوم. اهـ.
سؤال: ما المراد بقوله: {مصلى}؟
الجواب: ذكروا في المراد بقوله: {مُصَلًّى} وجوهًا. أحدها: المصلى المدعى فجعله من الصلاة التي هي الدعاء، قال الله تعالى: {يا أيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] وهو قول مجاهد، وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله: إن كل الحرم مقام إبراهيم. وثانيها: قال الحسن: أراد به قبلة. وثالثها: قال قتادة والسدي: أمروا أن يصلوا عنده. قال أهل التحقيق: هذا القول أولى لأن لفظ الصلاة إذا أطلق يعقل منه الصلاة المفعولة بركوع وسجود ألا ترى أن مصلى المصر وهو الموضع الذي يصلى فيه صلاة العيد وقال عليه السلام لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة المفعولة، وقد دل عليه أيضًا فعل النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة عنده بعد تلاوة الآية ولأن حملها على الصلاة المعهودة أولى لأنها جامعة لسائر المعاني التي فسروا الآية بها. اهـ.
ومن لطائف الإمام القشيرى في قوله جلّ ذكره: {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى}.
عَبْدٌ رفع لله سبحانه قَدمًا فإلى القيامة جعل أثر قَدَمِه قِبْلَةً لجميع المسلمين إكرامًا لا مدى له. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في الآية:

قال رحمه الله:
قَوْله تَعَالَى: {وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فِيهَا مَسْأَلَتَانِ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي تَحْقِيقِ الْمَقَامِ: هُوَ مَفْعَلُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، مِنْ قَامَ، كَمَضْرَبٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ أَيْضًا، مِنْ ضَرَبَ؛ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي مَنَاسِكِ الْحَجِّ؛ وَالتَّقْدِيرُ: وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَنَاسِكِ إبْرَاهِيمَ فِي الْحَجِّ عِبَادَةً وَقُدْوَةً.
وَالْأَكْثَرُ حَمَلَهُ عَلَى الْخُصُوصِ فِي بَعْضِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ: فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْحَجَرُ الَّذِي جَعَلَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ رِجْلَهُ حِينَ غَسَلَتْ زَوْجُ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ رَأْسَهُ.
وَقَدْ رَأَيْت بِمَكَّةَ صُنْدُوقًا فِيهِ حَجَرٌ، عَلَيْهِ أَثَرُ قَدَمٍ قَدْ انْمَحَى وَاخْلَوْلَقَ، فَقَالُوا كُلُّهُمْ: هَذَا أَثَرُ قَدَمِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مَوْضُوعٌ بِإِزَاءِ الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي دَعَا إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ رَبَّهُ تَعَالَى حِينَ اسْتَوْدَعَ ذُرِّيَّتَهُ.
فَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعُمُومِ قَالَ: مَعْنَاهُ كَمَا قَدَّمْنَا مُصَلًّى: مَدْعَى أَيْ مَوْضِعًا لِلدُّعَاءِ.
وَمَنْ خَصَّصَهُ قَالَ: مَعْنَاهُ مَوْضِعًا لِلصَّلَاةِ الْمَعْهُودَةِ؛ وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ ثَبَتَ مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ «أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ لَوْ اتَّخَذْت مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ: وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى».
الْحَدِيثَ، فَلَمَّا قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَوَافَهُ مَشَى إلَى الْمَقَامِ الْمَعْرُوفِ الْيَوْمَ، وَقَرَأَ: {وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} وَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ هُوَ الْمَقَامُ الْمُرَادُ فِي الْآيَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ بَيَّنَ الصَّلَاةَ وَأَنَّهَا الْمُتَضَمِّنَةُ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لَا مُطْلَقِ الدُّعَاءِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ عَرَّفَ وَقْتَ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَهُوَ عَقِبَ الطَّوَافِ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَوْقَاتِ مَأْخُوذٌ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ أَوْضَحَ أَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَاجِبَتَانِ، فَمَنْ تَرَكَهُمَا فَعَلَيْهِ دَمٌ. اهـ.

.من فوائد القاسمي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.
{وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} أي: الذي بناه إبراهيم بأم القرى، وهو اسم غالب للكعبة كالنجم للثريا: {مَثَابَةً لِّلنَّاسِ} مباءة مرجعًا للحجاج والعمار، يتفرقون عنه ثم يتوبون إليه. ومثابة مفعلة من الثوب؛ وهو الرجوع تراميًا إليه بالكلية، وسر هذا التفضل ظاهر في انجذاب الأفئدة وهوى القلوب وانعطافها ومحبتها له. فجذبه للقلوب أعظم من جذب المغناطيس للحديد فهو الأولى بقول القائل:
مَحَاسِنُهُ هُيُوْلَى كُلِّ حُسْنٍ ** وَمِغْنَاطِيْسِ أَفْئِدَةِ الْرِّجَاْلِ

فهم يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطرًا. بل كلما ازدادوا له زيارة، ازدادوا له اشتياقًا.
لَاْ يَرْجِعُ الطًّرْفُ عَنْهَا حِيْنَ يُبْصِرُهَا ** حَتَّى يَعُوْدَ إِلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاْقَا

فلله كم لها من قتيل وسليب وجريح! وكم أنفق في حبها من الأموال والأرواح! ورضي المحب بمفارقة فلذا الأكباد والأهل والأحباب والأوطان، مقدمًا بين يديه أنواع المخاوف، والمتالف، والمعاطب، والمشاق، وهو يستلذ ذلك كله ويستطيبه!
ذكر هذه الشذرة الإمام ابن القيم في أوائل زاد المعاد.
{وَأَمْنًا} موضع أمن. كقوله: {حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، وكقوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عِمْرَان: 97]، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسْبَون. وكان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فلا يعرض له، وفي هذا بيان شرف البيت من كونه محلًا تشتاق إليه الأرواح ولا تقضي منه وطرًا، ولو ترددت إليه كل عام، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله في قوله: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]، إلى أن قال: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم: 40]، ومن كونه مأمنًا لمن دخله. كما بيَّنَّا.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: «إن هذا بلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قلبي، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار». الحديث.
وقوله تعالى: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} قرئ بكسر الخاء، أمرًا معترضًا بين الجملتين الخبرتين، أو بتقدير: وقلنا اتخذوا. وقرئ بفتح الخاء ماضيًا معطوفًا على جعلنا. أي: واتخذوه مصلى، ومقام إبراهيم هو الحرم كله، عن مجاهد. وعنه: هو جمع ومزدلفة ومنى ومكة. ويقال: هو مقامه الذي هو في المسجد الحرام. فقد قال قتادة: إنما أمروا أن يصلُّوا عنده، ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت الأمم شيئًا مما تكلفته الأمم قبلها.
قال الراغب الأصفهاني: والأولى أنه الحرم كله، فما من موضع ذكروه إلا هو مصلى، أو مدعى أو موضع صلاة.
أقول: كان الأصل في الآية: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنًا ومصلى. إلا أنه عدل إلى هذا الأسلوب الحكيم دون ذاك، ودون أن يقال مثلًا: واتخذوا منه مصلى- لوجوه:
أحدها: التنويه بأمر الصلاة فيه، والتعظيم لشأنها حيث أفرد، للعناية بها، جملة على حدة.
وثانيها: التذكير بأنه مقام الأب الأكبر للأنبياء كافة، وما كان مقامه فجدير أن يحترم ويعظم.
وثالثها: التنصيص على أن هذا الاتخاذ بأمر رباني لا بتشريع بشر، تمهيدًا للأمر باستقباله، وإلزامًا لمن جادل فيه، وهم اليهود.
وقد روى الشيخان وغيرهما أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}.
قال ابن كثير: ومقام إبراهيم هو الحجر الذي يصلي عنده الأئمة، وذلك الحجر هو الذي قام إبراهيم عليه السلام عند بناء البيت، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيد لرفع الجدار، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها، وهكذا حتى تم جدران الكعبة، كما جاء بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل في بناء البيت من رواية ابن عباس عند البخاري.
قال ابن كثير: وقد كان هذا المقام ملصقًا بجدار الكعبة قديمًا، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل عليه السلام، لما فرغ من بناء البيت، وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء، فتركه هناك، ولهذا- والله أعلم- أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه. كما فعل رسول صلى الله عليه وسلم، فإنه لما قدم مكة طاف بالبيت سبعًا، وجعل المقام بينه وبين البيت، فصلى ركعتين.
قال ابن كثير: وإنما أخره عن جدار الكعبة إلى موضعه الآن عمر رضي الله عنه، ولم ينكر ذلك عليه أحد من الصحابة، وقد روى البيهقي بسنده إلى عائشة رضي الله عنها قالت: إن المقام كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقًا بالبيت، ثم آخره عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال سفيان بن عيينة، وهو إمام المكيين في زمانه: كان المقام من سُقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم. قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فردّه عمر إليه. وقال سفيان: لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله: وقال أيضًا: لا أدري أكان لاصقًا بها أم لا.
وأثر عائشة المتقدم يدل على أنه كان لاصقًا بها. والله أعلم.
وقال الحافظ الشيخ عُمَر بن الحافظ التقيّ محمد بن فهد المكيّ الهاشميّ، في كتاب إتحاف الورى بأخبار أم القرى في حوادث سنة سبع عشرة: فيها جاء سيل عظيم يعرف بسيل أم نهشل من أعلى مكة من طريق الردم، فدخل المسجد الحرام واقتلع مقام إبراهيم من موضعه، وذهب به حتى وجد بأسفل مكة، وعيّن مكانه الذي كان فيه لما عفاه السيل، فأتى به وربط بلصق الكعبة في وجهها، وذهب السيل بأم نهشل بنت عبيدة بن سعد بن العاص بن أمية. فماتت فيه واستخرجت بأسفل مكة، وكان سيلًا هائلًا. فكتب بذلك إلى أمير المؤمنين عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه وهو بالمدينة الشريفة، فهاله ذلك، وركب فزعًا إلى مكة، فدخلا بعمرة في شهر رمضان، فلما وصل إلى مكة وقف على حجر المقام وهو ملصق بالبيت الشريف. ثم قال: أنشد الله عبدًا عنده علم في هذا المقام!.
فقال المطلب بن أبي وداعة السهمي رضي الله عنه: أنا يا أمير المؤمنين عندي علم ذلك، فقد كنت أخشى عليه مثل هذا الأمر، فأخذت قدره من موضعه إلى باب الحجر، ومن موضعه إلى زمزم بمقاط، وهي عندي في البيت. فقال له عمر: اجلس عندي وأرسل إليها من يأتي بها. فجلس عنده وأرسل إليها فأتي بها، فقيس، ووضع حجر المقام في هذا المحل الذي هو فيه الآن، وأحكم ذلك واستمر إلى الآن. انتهى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} أي: أمرناهما. وتعديته ب {إلى} لأنه في معنى: تقدمنا وأوحينا: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} أي: عن كل رجس حسي ومعنوي: فلا يفعل بحضرته شيء لا يليق في الشرع، أو ابنياه على طهر من الشرك بي. كما قال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26]، أو أخلصاه للطائفين وما بعده لئلا يغشاه غيرهم. فاللام صلة: {طهرًا} على هذا. وعلى ما قبله، لام العلة؛ أي: طهراه لأجلهم.
وقوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ} أي: حوله. وعن سعيد بن جبير: يعني من أتاه من غربة: {وَالْعَاكِفِينَ} يعني أهله المقيمين فيه أو المعتكفين. كما روى ابن أبي حاتم بسنده إلى ثابت قال: قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير: ما أُراني إلا مكلِّم الأمير: أن أمنع الذين ينامون في المسجد الحرام، فإنهم يُجنبون ويُحدثون. قال: لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال: هم العاكفون. ورواه عبد بن حميد في مسنده. وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب.
وفي (الكشاف): يجوز أن يريد بالعاكفين الواقفين، يعني القائمين في الصلاة.
كما قال للطائفين والقائمين: {وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} جمع راكع وساجد والمعنى للطائفين والمصلين؛ لأن القيام والركوع والسجود هيآت المصلي، ولتقارب الأخيرين ذاتًا وزمانًا ترك العاطف بين موصوفيهما. وجمع صفتين جمع سلامة، وآخر بين جمع تكسير لأجل المقابلة؛ وهو نوع من الفصاحة. وأخّر صيغة: فُعُول على فُعَّل؛ لأنها فاضلة، والمراد من الآية الرد على المشركين الذين كانوا يشركون بالله عند بيته المؤسس على عبادته وحده لا شريك له، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] ففي ذلك تبكيت لهم وتنبيه على توبيخهم بترك دينه. اهـ.